shababik magazine

حوار: علي خالد – رضوى صبحي

لا تزال عادة الثأر، رغم مرور الزمن وتطور المجتمع المصري، تفرض سطوتها على بعض المناطق في صعيد مصر، حيث تتحول النزاعات البسيطة إلى خلافات ساخنة تجري بسببها الدماء أنهاراً في القرى التي لا تزال تعيش على تقاليد الماضي، ومع تصاعد النزاعات الدموية ينتشر الغل وتسود الكراهية جيلاً بعد جيل.. بين نار الانتقام وندم الفقد، يعيش ضحايا الثأر قصصًا مؤلمة تختلط فيها مشاعر الخوف والغضب والحزن. في هذا الحوار الخاص مع الشاب أحمد مجدي السيد، مسؤول خدمة كبار العملاء بأحد البنوك الخاصة، نقترب أكثر من حقيقة الثأر، يرويها لنا هذا الشاب ابن محافظة سوهاج، حيث يحكي كيف شاهد هذه العادة في بلدته؟ وإليكم التفاصيل.

ما تفسيرك لعادة الثأر في الصعيد؟ وهل تختلف في حقيقتها عما نراه في الدراما والسينما؟

الثأر يُعتبر واحدة من أسوأ العادات في الصعيد كله. ففكرة “التار” تعني أنه إذا قتلتُ شخصًا من عائلة معينة، فإن هذه العائلة لا تقتلني أنا بالضرورة، بل تختار أنظف وأفضل شخص في عائلتي لتأخذ بثأرها منه، رغم أنه ليس له أي ذنب في الموضوع.

الكثيرون يعتقدون أن “التار” يعني أنني إذا قتلت شخصًا معينًا، فإن أحد أفراد عائلته سيقتلني، وهكذا ينتهي الأمر، لكن هذا غير صحيح. “التار” لا ينتهي، بل قد يستمر خمسين أو ستين سنة، وقد تمر عشر سنوات بين جريمة قتل وأخرى، ثم يعود الأخذ بالثأر مجددًا، وهكذا إلى ما لا نهاية.

بمعنى آخر، “التار” ليس كما يتخيله البعض، فالموضوع لا ينتهي بقتل القاتل، بل العائلة التي تأخذ بثأرها تختار الشخص الأكثر قيمة ومحبة عند الناس من عائلة القاتل، وتقتله، حتى يكون وقع الانتقام أكبر وأشد تأثيرًا.

إلى متى سيظل الثأر موجودًا في الصعيد؟ وهل يمكن أخذ الثأر من سيدة؟

الثأر سيظل موجودًا، لأنه مرتبط بالعرف، والعرف هو شيء متوارث بين الأجيال ولا ينقطع، لذلك “التار” مستمر ولن ينتهِ.

أما بالنسبة للسيدات، فلا يمكن أن يكون لهن “تار”، فهذا أمر مستحيل. بشكل عام، لا يُؤخذ “التار” من امرأة، وحتى لو قتلت امرأة امرأة أخرى، لا يتم أخذ “التار” منها مباشرة، بل يستمر الأمر مع الرجال.

إذا حدث، مثلًا، أن امرأة قُتلت بالخطأ أثناء مشاجرة أو شجار، فإن الثأر لا يُؤخذ من امرأة أخرى، بل ينتقل الأمر إلى الرجال، فيبحثون عن زوجها، ابنها، أو أحد أفراد أسرتها الذكور لأخذ الثأر منه.

وبشكل عام، التار لا يزال موجودًا، وسيظل مستمرًا، ولن ينتهي.

هل يمكن للشرطة أن تتدخل في حل مشكلة الثأر؟

بالطبع، الشرطة تتدخل في مثل هذه النزاعات، خاصة عندما يكون التار بين عائلتين كبيرتين، لأنهم يدركون أن استمرار الخلاف قد يؤدي إلى دمار كبير في المنطقة أو حتى في المحافظة بأكملها. وعندما يحدث ذلك، يتم اللجوء إلى قيادات أمنية عليا لحل النزاع.

على سبيل المثال، في إحدى المرات كان هناك نزاع بين عائلتين، فتدخل كلٌّ من مدير الأمن والمحافظ للمساهمة في حله. يتم ذلك من خلال جلسة عرفية تُعقد بحضور الشرطة والأمن المركزي، حيث يُطلب من الطرف الذي عليه التار تقديم “الكفن”، وهو نوع من الاعتذار الرمزي للطرف الآخر. تقديم الكفن يعني أن الشخص الذي قدمه يُعتبر ميتًا معنويًا في مجتمعه، بينما الطرف الآخر يُعتبر هو المنتصر والحي. من الناحية الاجتماعية، يُنظر إلى تقديم الكفن على أنه اعتراف بالهزيمة، ويعيش الشخص الذي قدمه حياته بعد ذلك وعينه مكسورة وسط الناس، لكنه يفعله غالبًا لإنهاء النزاع وإيقاف شلالات الدم التي قد تستمر لأجيال.

التار ليس مجرد قتل وانتقام، بل يمتد ليصبح دائرة انتقامية قد تطول لعقود. المشكلة أن القتل في هذه الحالات لا يكون عشوائيًا، بل يتم اختيار شخص ذو قيمة كبيرة في العائلة ليكون قتله مؤثرًا أكثر. في بعض الأحيان، يذهب الضحية لمجرد أنه ناجح أو محبوب، حتى لو لم يكن له أي علاقة بالخلاف الأصلي. كما أن طرق القتل تكون وحشية للغاية، فقد لا يكتفي القاتل برصاصة واحدة، بل يطلق عليه ثلاثين رصاصة، أو حتى يحرقه، رغم أن التعذيب بالنار ليس من حق أحد سوى الله، لكنه يكون مدفوعًا بالغضب والرغبة في الانتقام.

هل استمرار وجود الثأر في الصعيد يخيفكم؟ وكيف يؤثر على حياتكم؟

بالطبع، وجود “التار” يؤثر بشكل كبير، لأنه يجعل حياة الكثير من الأبرياء في خطر، خاصة من لا علاقة لهم بالنزاع الأصلي. ومع ذلك، مقارنةً بالماضي، بدأت الأمور تهدأ قليلًا مع الأجيال الجديدة، حيث أصبح من الأسهل السيطرة عليهم، بعكس الأجيال القديمة التي كانت أكثر تشددًا في هذه المسائل.

في الماضي، الشرطة لم تكن تتدخل كثيرًا في مثل هذه النزاعات، ولم تكن تملك القوة الكافية لحلها، وهذا ما كان يجعل النزاع يستمر ويكبر. أحيانًا كنا نشاهد ذلك في الأفلام، لكن الحقيقة أن الواقع أكثر مرارة وأصعب مما يمكن لأي فيلم تصويره. أما الآن، فالشرطة تتدخل في وقت مبكر لمنع النزاع من التفاقم، وتحاول السيطرة على الموقف قبل أن يصل إلى مرحلة سفك الدماء.

رغم ذلك، يبقى “التار” أمرًا مرعبًا، خاصة لمن لديهم عائلات، لأن الشخص قد يكون مستهدفًا في أي لحظة. أحيانًا يكون الشخص المقتول غير موجود حتى في المحافظة التي نشأ فيها، فقد حدثت حالات قتل لأشخاص كانوا يعيشون خارج الصعيد تمامًا، مثل القاهرة أو الإسكندرية، بل حتى في الخارج مثل الكويت، حيث تم قتل شخص بعد عشرين عامًا من الغربة بطريقة وحشية، فقط لأنه كان ينتمي للعائلة التي عليها “التار”.

وعندما يكون هناك “ثأر”، يُعرف ذلك من خلال عدم إقامة العزاء للشخص المقتول، لأن العزاء يعني قبول الواقع والمسامحة، بينما عدم إقامة العزاء هو إعلان صريح بأن العائلة تنوي الأخذ بالثأر. في هذه الحالة، تبدأ العائلة الأخرى في اتخاذ احتياطاتها، وتحذر أفرادها الذين يعيشون خارج المحافظة أو حتى خارج مصر، لكن ذلك لا يمنع حدوث جرائم القتل، لأن الثأر فكرة مترسخة لا تتوقف بسهولة.

بعض الناس يهربون إلى الصحراء ليعيشوا فيها طوال حياتهم هربًا من الثأر، فقط كي ينجوا بأنفسهم، لكنهم يبقون في قلق دائم لأنهم يعلمون أن “التار” لا يسقط بالتقادم، وأنه قد يلاحقهم حتى بعد عقود.

في حالة أخذ الثأر، ماذا يحدث بعد ذلك؟ هل يمكن أن يتوقف عند شخص مقابل شخص، أم أنه يستمر في التصاعد؟

لا، بالطبع لا يتوقف عند شخص مقابل شخص، كما ذكرت لك في البداية، “التار” يشبه الشلال الذي لا ينتهي، فهو أمر بلا نهاية. على سبيل المثال، إذا تم قتل شخص مثلًا محمد، وأخذوا حقه من العائلة الأخرى، فالعائلة الأخرى بدورها لن تصمت، بل ستسعى للرد. لماذا؟ لأن الشخص الذي تم قتله لم يكن هو القاتل الأصلي، بل شخص آخر من العائلة، وبذلك يشعرون أنهم مظلومون ويطالبون برد الثأر من جديد.

هناك إساءة فهم لفكرة القصاص.. كيف ترى تأثير ذلك على استمرار الثأر؟

في الأصل، مفهوم “التار” مستمد من فكرة “القصاص”، أي أن القاتل يجب أن يُقتل، لكن في الصعيد يتم تطبيق هذا المفهوم بشكل خاطئ. فمن المفترض أن يُقتل القاتل نفسه، لكن ما يحدث هو أن العائلة التي تسعى للثأر تختار شخصًا آخر من العائلة المعادية، حتى لو لم يكن له أي علاقة بالجريمة الأصلية، وهذا يؤدي إلى استمرار دائرة الانتقام.

في بعض الأحيان، عندما يكون الشخص الذي قُتل ذا مكانة كبيرة، لا تكتفي العائلة الأخرى بقتل شخص واحد فقط، بل يعتبرون أن ديته يجب أن تكون بمقتل اثنين أو ثلاثة من الطرف الآخر، لأن الشخص الذي فقدوه كان ذا قيمة كبيرة. وبالتالي، فإن الرد لا يكون متساويًا، بل يتفاقم الصراع أكثر فأكثر.

ومن المفارقات أن الشخص الذي يقوم بالقتل بدافع “التار”، عادةً لا يهرب بعد ارتكاب جريمته، بل يسلم نفسه طواعية إلى مركز الشرطة أو قسم الأمن التابع له. لماذا؟ لأنه يرى أنه بذلك قد استعاد شرفه وشرف عائلته، ولم يعد يهتم بأي شيء آخر في الحياة، سواء كان الحكم عليه بالسجن المؤبد أو حتى بالإعدام، فكل ما يهمه هو أنه قد أخذ بثأر عائلته.

لذلك، الثأر لا ينتهي عند قتل شخص واحد، بل يستمر حتى تتدخل الشرطة أو كبار الشخصيات في المنطقة، مثل مدير الأمن أو المحافظ، لمحاولة إنهاء النزاع بطريقة رسمية عبر جلسات الصلح والعرف. ولكن بدون هذا التدخل، لا يمكن للثأر أن يتوقف بسهولة، بل يظل مستمرًا جيلاً بعد جيل.

ما هي الرسالة التي تود توجيهها للشباب بشأن عادات القتل والثأر؟

لا يمكن القول إنها رسالة بالمعنى الحرفي، ولكن الوضع الآن أصبح مختلفًا قليلًا في الصعيد بشكل عام، فالحياة تطورت ولم تعد كما كانت في السابق.

قديمًا، كان الأمر أبسط بكثير، فإذا قُتل شخص من عائلة معينة، كان يتم جمع أفراد العائلة مباشرة للرد بقتل شخص من العائلة الأخرى دون تفكير. أما الآن، فالوضع تغير تمامًا، حيث أصبح لكل شخص حياته الخاصة التي يخشى عليها. لم يعد الجميع متحمسًا للانتقام بنفس الطريقة، بل ستجد نسبة كبيرة من الناس يقولون: “أنا مالي، أنا لا علاقة لي بهذا، لدي أولاد أريد تربيتهم، لا أريد الدخول في هذه المشاكل”. الحياة اليوم أصبحت أكثر تعقيدًا، وكل شخص منشغل بحياته وأموره الخاصة، حتى وإن لم يكن هذا بإرادته، بل غصب عنه.

أما لو كان هناك رسالة فعلية في هذا الموضوع، فالأفضل أن نترك الأمور تسير وفقًا لما قدّره الله، وأن نلتزم بالقانون الذي يحكم البلاد، فهو أدرى منّا جميعًا. فالقانون يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية، وإذا كانت الجريمة تتطلب القصاص، فالقضاء بالفعل سيحكم بذلك.

كل شيء الآن أصبح له أسباب ودلائل، كما أن القانون تطوّر، والأجهزة الأمنية والمباحث أصبحت أكثر تطورًا ولم تعد تمنح الفرصة لاستمرار هذه النزاعات، بل تتدخل مبكرًا جدًا للسيطرة على الوضع قبل أن يتفاقم. والحمد لله، هذه الظاهرة في تراجع مستمر، ولم تعد منتشرة كما كانت في الماضي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

احدث المواضيع : قلة من الباحثين يمتلكون القدرة على قراءة المجتمع   رحلة الموضة من «الشارلستون» إلى «الباجي والستريت ستايل»   مبادرة «مودة».. دورات تدريبية لتأهيل الشباب المقبلين على الزواج   كل الطرق لا تؤدي إلى روما.. “شبابيك” تكشف أحدث طرق الهجرة غير الشرعية   أنهار الدم.. أحمد مجدي يكشف الحقائق الغائبة عن جحيم الثأر   الدارك ويب.. خفايا القاع المظلم للشبكة العنكبوتية   حكايات الرحيل والعودة.. مشوار العمر بين بساطة القرية وضجيج الغربة