shababik magazine

حوار: جودي شريف – جنة تامر

في عصرٍ تسيطر فيه الشاشات على تفاصيل حياتنا، تحوَّلت منصاتُ التواصل الاجتماعي من أدواتٍ للترفيه إلى “لصوصٍ خفيين” يسرقون أعمارنا قطعةً قطعة! بين الضحك واللايكات والشير، تنزلق الساعاتُ دون أن ندري، لنجدَ أنفسنا بعد سنواتٍ ناقصي الإنجاز، حالمين بما كان يمكن أن نصنعه لو أننا أدركنا الخطر مبكرًا.. الدكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، يحذِّر في هذا الحوار من تحوُّل إهدار الوقت إلى “إهدار للعمر”، ويكشف عن متلازماتٍ نفسيةٍ جديدةٍ ولَّدها إدمانُ الإنترنت والسوشيال ميديا، مثل “الفومو” و”النوموفوبيا”، كما يُجيب عن سؤال الساعة: هل نحتاج جميعًا إلى طبيب نفسي في زمن القلق؟ أيضا يكشف لنا الستار عن مخاطر “اللص الظريف” الذي يعيش معنا على هواتفنا، وإليكم التفاصيل..

تأثير السوشيال ميديا على الوقت يزداد خطورة.. هل ترون أن المشكلة أعمق من مجرد إهدار وقت الإنسان وشعوره الدائم بالإدمان والارتباط بها؟

 بالتأكيد، نحن لا نتحدث فقط عن إهدار الوقت، بل عن إهدار العمر بأكمله. السوشيال ميديا أصبحت لصاً خفياً يسرق منّا أعمارنا دون أن نشعر. منذ خمس سنوات، كان لديّ أصدقاء كل منهم اختار طريقاً مختلفاً: من واصل دراساته العليا، ومن بدأ تجارة بسيطة، ومن هاجر، ومن دخل العمل السياسي. واليوم كل منهم أصبح كياناً قائماً. بينما من اختار أن “يتسلى على الإنترنت”، وجد نفسه بعد هذه السنوات يمسك بالفراغ. الإنترنت اليوم لا يسرق الساعات فقط، بل يبدد الطاقة ويُغيّب الأهداف. الأمر يتجاوز السرقة البسيطة للوقت، فالإنسان الذي يقضي ساعاتٍ يوميًّا في التمرير اللانهائي للرييلز أو متابعة التعليقات، يخسر سنواتٍ قد يُحقِّق فيها أحلامًا كبرى. تخيَّل أن خمس سنواتٍ من حياة أربعة أصدقاء – أحدهم يدرس والآخر يعمل والثالث يسافر – تُترجم إلى إنجازات ملموسة: ماجستير، مشروع تجاري، سكنٌ في الخارج. أما الذي يهدر وقته على الإنترنت، فيجد نفسه بعد نصف عقدٍ بلا شيء سوى ذكريات “لايكات”! هذه ليست سرقة وقت.. بل اغتيالٌ للطموح!

كيف انعكس هذا الاستخدام المفرط للإنترنت على الصحة النفسية للمستخدمين؟

الاستخدام المفرط خلق مجموعة من الاضطرابات النفسية المستحدثة، لم نكن نسمع عنها من قبل، منها:

مع انتشار هذه المتلازمات.. هل أصبح الذهابُ إلى الطبيب النفسي ضرورةً للجميع؟ 

نعم! نحن نعيش “عصر القلق”، قلق من المستقبل، من المرض، من فقدان الأحباب، حيث أن الضغوطُ الاقتصادية والاجتماعية تُنتج أمراضًا نفسيةً تظهر على الجسدُ أحيانًا (مثل الصداع أو تساقط الشعر أو اضطرابات المعدة). حتى الجوائح كالكورونا زادت الوعي بأهمية الصحة النفسية. العلاج النفسي لم يعد رفاهية، بل وسيلة للنجاة في عالمٍ معقَّد. كما أن التغير المستمر في مراحل العمر يُنتج مشكلات نفسية متوالية، جعلت الإنسان أكثر وعيًا بضرورة العناية بصحته النفسية، على الأقل ليحيا في حالة من التوافق النفسي. فالصحة النفسية، في تعريفها الشامل، لا تعني الخلو التام من الأمراض، بل القدرة على التكيّف مع ما نواجهه من ضغوط ومشكلات.

هل تختلف المشكلات النفسية باختلاف مراحل العمر؟

بالطبع. الطفل يواجه مشاكل مثل التبول اللاإرادي، التوحد، واضطرابات النطق. في المراهقة تظهر مشكلات الإدمان، والميول الجنسية. في سن الشباب نجد مشكلات البطالة، والعنوسة، واختيار شريك الحياة. الكهولة تجلب معها أمراضاً جسدية يرافقها قلق نفسي شديد. لكل مرحلة مشاكلها، وكذلك لكل دور: الزوجة، الأم، الموظف، الطالب.. كل دور يرافقه ضغوط تخلق تحديات نفسية فريدة. من جانب آخر، أصبح الجميع اليوم يتحمّلون مسؤوليات متزايدة؛ فالمرأة باتت تشارك الرجل في تحمل الأعباء، بل وتتفوق عليه أحيانًا. يكفي أن نلقي نظرة على النوادي، والمجموعات، والهيئات، والأنشطة، لنجد أن معظم من يقفون أمام أبوابها من النساء، وليس الرجال. لقد أصبح تحمّل المسؤولية أمرًا جسيمًا لدى الجميع، وأفرز ذلك ضغوطًا متعددة، سواء كانت ضغوطًا مهنية أو دراسية، وانتهى الأمر في كثير من الأحيان إلى ما يُعرف بالاحتراق النفسي. كل هذه الضغوط دفعت الإنسان إلى التفكير في صحته النفسية، وارتفع مستوى الوعي بضرورة ارتياد العيادات النفسية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن اختلاف مراحل العمر بات بدوره يولّد مشكلات نفسية مختلفة في كل مرحلة.

هل يمكن اعتبار التقدم التكنولوجي سبباً في تفشي الأمراض النفسية؟

بالتأكيد، فالتكنولوجيا سرعت من وتيرة الحياة، لكنها لم تُهيّئ الإنسان نفسياً لذلك. الإنترنت الذي غيّر نمط حياتنا له تأثيرات نفسية واضحة. كذلك فإن زيادة حركة التصنيع وتوسّع شبكات الطرق أدّت إلى ارتفاع معدلات الحوادث والإصابات، وما يتبعها من أضرار نفسية لدى المصابين، خصوصًا من يعانون من إعاقات جسدية أو ذهنية (ذوي الاحتياجات الخاصة). كما أن التقدم العلمي في العمليات الجراحية جعل من الممكن بقاء الأطفال المبتسرين أو من يعانون من مشكلات دماغية أو إعاقات عقلية على قيد الحياة، بينما في الماضي لم تكن هناك فرصة لبقائهم. هذا التقدّم أدّى إلى نشوء تحديات نفسية جديدة، سواء للأطفال أو ذويهم. كذلك فإنّ ضحايا الحوادث قد يبقون على قيد الحياة مع إصابات مزمنة، مما يترك آثارًا نفسية طويلة الأمد.

التطور الحضاري والمعماري أيضًا ساهم في ظهور أزمات نفسية؛ فالابتعاد عن الأسرة أو البيئة الأصلية لأسباب العمل أو الدراسة، كأن يسكن المرء في مدينة بعيدة مثل السويس، يولد شعورًا بالغربة والعزلة. البعد عن الأهل، والأصدقاء، والمجتمعات المرجعية يؤدي إلى اضطرابات نفسية واضحة. ولم تكن الخلافات الزوجية ومعدلات الطلاق بعيدة عن هذا السياق، إذ أسهمت في تعميق الوعي بالحاجة إلى المساندة النفسية. كما أن ظواهر العنوسة، والبطالة، والتنمر، والتحرش كلها باتت تُعدّ من الأسباب المباشرة التي تستوجب التدخل النفسي.

هل أثّرت جائحة كورونا في وعي الناس بالمشاكل النفسية؟

الكورونا كانت زلزالاً نفسياً. خسائر الأحباب، البطالة، العزلة، الخوف من العدوى، الوسواس، كلها فجّرت احتياجات نفسية ضخمة وجعلت الناس تتقبل فكرة زيارة الطبيب النفسي بعد أن كانت مرفوضة اجتماعياً. لقد أصبح الإنسان اليوم يردد: “أنا بحاجة إلى الذهاب إلى طبيب نفسي”، وذلك نتيجة الارتفاع الملحوظ في معدلات الأمراض النفسية، التي باتت تنشأ عن عوامل متعددة. أما العصر الحديث وما حمله من جوائح، وعلى رأسها جائحة كورونا، فقد أحدث وعيًا جماعيًا ضخمًا بخصوص الصحة النفسية. فقد اختبر الناس مشاعر الحزن، والاكتئاب، وفقدان الأمل، والخوف من الموت، والوسواس القهري المرتبط بالإصابة بالمرض، إضافة إلى البطالة، وتبعاتها النفسية، والمشكلات التي واجهها الأطفال خلال فترات العزل.

ما أخطر الظواهر النفسية التي انتشرت مؤخرا؟

من أبرز الظواهر النفسية التي انتشرت مؤخرًا على نطاق واسع ما يُعرف بـ”توهم المرض” (الهايبوكوندريا)، إذ يشعر الفرد بأنه مصاب بمرض خطير، رغم عدم وجود دليل طبي. فمثلًا، قد تبدأ امرأة في الأربعين من عمرها بتفحص جسدها باستمرار: “لدي ورم هنا”، “أشعر بألم هناك”، وتبدأ بإجراء تحاليل الأورام دون داعٍ، ويقابلها الرجل الذي يعتقد أنه مصاب بذَبحة صدرية أو مشكلات في القلب، رغم خلوّ الفحوص من أي خلل. هذه الحالات أسبابها نفسية، وعلاجها نفسي بحت. وقد أدى هذا الوعي المتزايد إلى إقبال الناس على قراءة المقالات النفسية، والبحث عبر محركات البحث مثل “جوجل” عن الأمراض النفسية، والمعلومات عنها، بل وحتى عن الأطباء والمختصين في العلاج النفسي. كما أن اضطرابات النوم بأنواعها، سواء الأرق، أو النوم المتقطع، أو اختلال الساعة البيولوجية، أصبحت بدورها من علامات الخلل النفسي التي جعلت الإنسان أكثر وعيًا بأهمية المعالجة النفسية. ومع ازدياد تعقيد الحياة وتغيراتها المستمرة، نحتاج وبكل تأكيد إلى المعالج النفسي، بل إن الحاجة إليه ستزداد مع الزمن، لأن الصحة النفسية باتت ركنًا أساسيًا في قدرتنا على التكيف مع الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

احدث المواضيع : قلة من الباحثين يمتلكون القدرة على قراءة المجتمع   رحلة الموضة من «الشارلستون» إلى «الباجي والستريت ستايل»   مبادرة «مودة».. دورات تدريبية لتأهيل الشباب المقبلين على الزواج   كل الطرق لا تؤدي إلى روما.. “شبابيك” تكشف أحدث طرق الهجرة غير الشرعية   أنهار الدم.. أحمد مجدي يكشف الحقائق الغائبة عن جحيم الثأر   الدارك ويب.. خفايا القاع المظلم للشبكة العنكبوتية   حكايات الرحيل والعودة.. مشوار العمر بين بساطة القرية وضجيج الغربة