تحقيق: فرح شوقي – فرح أحمد
بعض الدعاة قد يتسببون في إثارة أزمات اجتماعية عندما يتصدون بغير وعي لبعض النقاط الخلافية فيما يخص كيان الأسرة، لهذا نواجه بين الحين والآخر فتاوى جدلية، حيث يفسرها أحد طرفي العلاقة الزوجية على طريقته الخاصة وبما يخدم أغراضه، في هذا الإطار أثارت فتوى “خدمة المرأة لزوجها” جدلا واسعا على السوشيال ميديا، حيث أشارت هذه الفتوى التي أطلقها بعض الدعاة إلى أن “قيام المرأة بالأعمال المنزلية وخدمة بيتها وأطفالها ليس واجبا شرعيا”، وبهذه الفتوى يسقط النموذج التقليدي للزوجة “الأصيلة”.. الطريف والمثير أنه بالتوازي مع هذه الفتوى فقد شهدت بعض المحاكم مؤخرا قضايا “نشوز” تدور حول امتناع الزوجة عن خدمة بيتها.. فماذا وراء هذه الفتاوى؟ وما تأثيرها على كيان واستقرار الأسرة؟
في البداية، هناك حالات كثيرة يمكن رصدها في هذا الشأن، من بينها ما قضت به محكمة الأسرة بإمبابة برفض دعوى “نشوز” أقامها زوج ضد زوجته، وإلزام زوجها برد حقوقها الشرعية، حيث اتهم الزوج زوجته بأنها ترفض القيام بالأعمال المنزلية، واتهم زوجته بالتقصير تجاه حقوقه الزوجية المترتبة على عقد الزواج، وهو ما جعله يٌصاب بالضرر المادى والمعنوي لكن المحكمة رأت أن هذا لا يُعد سببا كافيا لرفع الدعوى.. وهناك حالات واقعية كثيرة، يمكن رصدها بسهولة على بعض صفحات الفيس بوك مثل “قعدة رجالة”، و”رجالة مفروسة”، وغيرها من الصفحات التي تفاعلت مع هذه الفتوى التي أيدها بعض الدعاة.
حقوق وواجبات
الموقف الشرعي من هذه القضية يبدو جدليا للغاية، حيث يقول الشيخ عمر عبدالدايم، إمام وخطيب بالأوقاف: أولا الزوجة هي السكن وهي منبع المودة والرحمة، ومن الناحية الشرعية والمجتمعية هي مطالبة بالقيام بدورها في رعاية زوجها وأطفالها ومنزلها، ولكن ليس مفروضا عليها خدمة والد الزوج أو والدته، وهذا ما اتفق عليه جمهور العلماء، والقرآن الكريم يقول: “هن لباس لكم وأنتم لباس لهن”، فالزوجة عليها أن تطيع زوجها إلا إذا أرادها فيما يغضب الله عز وجل، وهناك نص قرآني صريح في هذا الأمر حيث يقول الله تعالى “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة” وتفسير هذه الآية يشير إلى أن لكل طرف حقوق وواجبات، فالله سبحانه وتعالى أشار في هذه الآية إلى قاعدة عظيمة من قواعد الحياة الزوجية وهي حسن المعاملة، وتعتبر أساسا من أسس التعامل بين الزوجين، ومن الأركان العظيمة في قيام الأسر على العدل والرحمة. والحقوق والوجبات التي على الزوجين تنقسم إلى قسمين: حقوق وواجبات يتساوى فيها كل من الزوجين تساويا تاما: مثل حسن المعاملة، وقصر الطرف عن غير ما أحل الله لهما، والمماثلة في وجوب الرعاية (فالرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها)، وهناك حقوق وواجبات تكون بين الزوجين على وجه المقابلة، كل بحسب ما قضاه الله عليه بمقتضى الفطرة والخلقة والشرع والحكمة، ومرجع ذلك إلى الشريعة وتفاصيلها. بل أن أحد الصالحين قال لا يمنعني من الزواج إلا هذه الآية المذكورة، وذلك بالنظر لحجم المسئوليات التي يتحملها كل طرف أمام الله تعالى.
ويضيف “عبدالدايم” أن هناك بعض الآراء الفقهية لاسيما في “فقه المالكية” تحمل مثل هذه الآراء التي يرددها بعض الدعاة اليوم والتي تشير في مجملها إلى أن المرأة ليس واجبا عليها خدمة زوجها، ومثل هذه الآراء لا تساعد مطلقا في بناء أسرة متماسكة بل إنها قد تعمل على تفكيك الأسرة في الوقت الذي تعاني فيه من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والتي تفرض على كل طرف أن يقوم بواجباته، ولذلك أقول أن الفتوى أمانة ومسئولية وقد تختلف حسب الزمان والمكان بشرط ألا تتعارض مع صريح النص، ومن الأمثلة على ذلك أن إبن عباس جاءه رجل وقال له “هل للقاتل توبة؟” فقال له ابن عباس “لا ليس للقاتل توبة”، وبعد ذلك بأيام جاءه رجل آخر وسأل نفس السؤال وكان رد ابن عباس “نعم للقاتل توبة” فتعجب البعض من هذا التناقض، فذكر ابن عباس أن الرجل الأول كان يضمر في داخله الشر وكان يريد أن يذهب ليقتل مرة أخرى فأغلقت الباب في وجه، أما الرجل الثاني فكان يريد أن يتوب بصدق إلى الله تعالى.
أما الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، فترى أن الأصل في هذه المسألة هو المودة والرحمة والتكامل وليس الإجبار والإذلال، حيث تقول: خدمة المرأة لزوجها وبيتها “تفضل” منها وليس “أمر”، بل أن الرجل يجب أن يوفر لها خادمة خاصة إذا كانت تعيش في وسط اجتماعي ميسور. لكن هذا لا يعني أن تتخلى الزوجة عن زوجها وبيتها ورعاية أطفالها، فنجاح الأسرة يقوم على رعاية الزوجين وقيام كل طرف بمسئوليته تجاه الآخر بشيء من الحرية والمسئولية أيضا، والمقصود من هذا الرأي الفقهي أن الزوج لا يمكن أن يقوم بإكراه الزوجة أو إذلالها لخدمته فهذا هو المرفوض، وإنما تقوم المرأة بهذه الواجبات عن حب ومودة، ومن هنا ينشأ الاحترام في العلاقة الزوجية، وذلك مصداقا لقول سيدنا محمد (صلّى الله عليه وسلّم): «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته».
أما موقف دار الإفتاء فكان حاسما، حيث ذكر الشيخ أحمد وسام، أمين الفتوى بدار الإفتاء، أن خصوصية الحياة الزوجية تتنافى تماما مع هذه المسألة، لأن حسن العشرة هو المطلوب، وليس مستحبا أن يبحث أي طرف عن مقابل لما يقدمه من واجبات تجاه الأسرة أو أن يسأل هل ما أقدمه واجب شرعي أم لا، والأصل في هذا الأمر أن يقوم كل طرف بواجباته بالحب والمودة.
أمينة وسي السيد!
ومن جانبها ترى أميرة عبدالعزيز، باحثة في علم الاجتماع الأسري، واستشارية علاقات أسرية، أن التفسير الخاطيء والمغلوط للفتاوى الدينية يتسبب كثيرا في زيادة عناد طرفي العلاقة الزوجية، والملاحظ أن الزوج يتمسك بالعرف بينما تلجأ الزوجة للشرع، فالرجل هو “سي السيد” الذي يأمر وينهي وينتظر من زوجته أن تكون خادمة مطيعة لكل ما يأمر به، أما الزوجة فتعيش في حالة صراع فهي ترفض داخليا أن تكون “أمينة” أو الزوجة المطيعة وفي نفس الوقت تضطر لتقديم تنازلات كبيرة لأجل أطفالها وبيتها، وعندما تزداد حياتها سوءا بسبب تعنت الزوج فإنها تبحث عن الحل الشرعي للأزمة.. والحقيقة أن الأسرة المصرية تواجه تحديات كثيرة وضغوطات شديدة كما تزداد معدلات الطلاق بشكل كبير خاصة بين المتزوجين حديثا، ولهذا يجب أن تراعى الفتاوى مثل هذه الظروف، خاصة وأن أحد الطرفين قد يلجأ لتفسير هذه الفتاوى بما يخدم أغراضه، كما أن هذه الفتاوى يمكن أن تتسبب في اتساع الفجوة بين الرجل والمرأة في المجتمع المصري، حيث أن هناك ثوابت تقوم على أن الرجل يوفر مصدر الدخل والإنفاق في حين تقوم الزوجة بتدبير المصروفات ورعاية الأطفال والأعمال المنزلية، وهذه الثوابت يمكن أن تتعرض للهدم بسبب بعض الفتاوى غير المناسبة لظروف العصر.
موقف القانون
ومن جانب آخر، يقول الأستاذ محمود عبدالله، المحامي بالنقض والدستورية العليا، أن المحكمة في بعض المواقف قد لا تقبل دعاوى النشوز التي يرفعها الزوج ضد زوجته بحجة أنها لا تقوم بأعمال المنزل أو لا تخدمه، فقد يفشل الزوج في إثبات هذا الموقف. لكن “النشوز” المؤكد يقع عندما تمتنع الزوجة عن البقاء في منزل الزوجية أي خرجت من البيت ورفضت العودة، ففي هذا الحالة يرسل الزوج إنذارا على يد محضر وخلال ثلاثين يوما يجب أن تعود، وإن لم تعد يرفع دعوى “طاعة” أي يطلبها بحكم المحكمة للعودة لطاعته، فإن لم تعد يرفع دعوى “ثبوت نشوز” فتحكم المحكمة بالأدلة والمستندات بوقف كل حقوق الزوجة الشرعية إذا ما ثبت أنها “ناشز” وتظل معلقة فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة, وهنا تقع الزوجة في موقف صعب، ولهذا نقول أننا بحاجة لثقافة وتعايش اجتماعي حقيقي وتحمل الطرفين حتى تمر الحياة الأسرية بسلام.
ويضيف عبدالله، أن الزوج يمكن أن يلجأ في هذا الحالة للعرف بمعنى أن يحاول أن يحل المشكلة بشكل ودي، وأنا أقترح أن يكون للمساجد دور إيجابي في حل هذه المسائل المنزلية كأن يتم تشكل لجان من أئمة المساجد والمحامين وقادة الرأي في كل منطقة بحيث نضمن أن يتم حل مثل هذه المسائل لأنها لن تجد حلا قاطعا في المحاكم.