فرح شوفي
في أزقة المدن وأرياف القرى، وفي زوايا الشاشات والإعلانات الورقية، تنتشر ظاهرة قديمة حديثة، لا تزال تجد مكاناً في قلوب وأفكار البعض رغم كل ما نعيشه من تطور علمي وتكنولوجي. إنها ظاهرة الدجل والشعوذة، أو تجارة الوهم التي تلعب بعقول الناس وتستغل بساطتهم واحتياجاتهم، وتستنزف جيوبهم، وتخرب بيوتهم.
بحسب تقارير غير رسمية قرأتها في تقارير صحفية منشورة على بعض المواقع الإخبارية، يُنفق المصريون سنويًا ما يُقدّر بمليارات الجنيهات على الدجالين والمشعوذين، سواء في شكل جلسات “فك السحر” أو “رد المطلقة” أو “جلب الحبيب”، وغير من مظاهر وأدوات الدجل والنصب والاحتيال. بل إن كثيرًا من هذه الأموال تُدفع في صمت، مما يجعل تقدير الرقم الحقيقي مهمة صعبة.
وقد رصدت بعض الدراسات أن النساء هنّ الأكثر لجوءًا لهذه الطرق، بدافع القلق على الأسرة أو الزوج، أو رغبة في حل مشكلات الحياة بطرق “غير تقليدية”، أو رغبة في الانتقام من أحد الأشخاص.
لكن الحقيقة التي لا يجب تجاهلها أن الدجل والشعوذة من الجرائم والذنوب التي حذرت من الأديان السماوية. بل على العكس، جاءت النصوص الدينية واضحة في تحريمها، واعتبارها شكلًا من أشكال الشرك بالله، والاعتماد على غيره. ففي القرآن الكريم، يقول الله تعالى: “وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر”. وفي الحديث الشريف، جاء: “من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد”.
وبعيدًا عن الجانب الديني، فإن آثار الدجل والشعوذة على المجتمع لا تُحصى. فالخسائر ليست مادية فقط، بل نفسية واجتماعية. كم من بيت تهدم بسبب وقيعة زرعها “دجال” في نفس زوجة تجاه زوجها، أو خلاف بين إخوة فسره “مشعوذ” بأنه سحر مدفون؟ وكم من فتاة فقدت ثقتها بنفسها، لأنها صدقت أن “العنوسة” سببها “عمل معمول”؟ وكم من شاب أعطى ماله وأمله لمشعوذ، بدلاً من أن يعمل على تطوير نفسه؟ إنها مأساة حقيقية، تتكرر كل يوم، وتنتشر كالنار في الهشيم.
وللأسف، ساهمت بعض وسائل الإعلام، وحتى بعض المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي، في نشر هذه الظواهر، إما بالسخرية منها، أو بعرضها في مسلسلات وأفلام، حتى بات كثيرون يرون فيها “تجربة تستحق المحاولة”.
أنا شخصيا أرى أن الدجل والشعوذة جريمة اجتماعية وثقافية ودينية. وهي لا تحل المشكلات بل تزيدها. ولا تبني البيوت بل تهدمها وتخربها.
إن الكثير من الخلافات الزوجية والأسرية سببها الرئيسي الإيمان بالدجل والشعوذة واللجوء للدجالين والمحتالين. كما أصبح من الشائع أيضاً لجوء بعض المرضى لهؤلاء الدجالين بحثاً عن العلاج.
والحل لا يكون بالجري وراء الوهم، بل بالإيمان بالله، وبالعلم، وبالحوار الأسري الصادق. كما يجب على الدولة أن تتحرك وتمنع كل أشكال الدجل التي يتم بثها على الشاشات بتشريعات قوية، وحملات توعية للناس، وتجفيف منابع هذه التجارة السوداء التي تستغل ضعف الناس وأحزانهم.
وفي النهاية، يبقى السؤال: إلى متى سنبقى أسرى للخرافة؟ ومتى نؤمن أن الحل يبدأ من داخلنا لا من كفّ مشعوذ؟