shababik magazine

فاطمة خالد القاضي

في السنوات الأخيرة، تغيّرت علاقتنا بالهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل لم نكن نتوقعه. لم يعد الهاتف وسيلة تواصل فحسب، بل صار امتدادًا لحياتنا، يرافقنا في كل لحظة، من الاستيقاظ حتى النوم. بل قد ننام وهو في أيدينا. صار الملجأ عند الشعور بالفراغ، والصديق في لحظات الوحدة، والطريق الأقرب للهرب من الواقع.

ولعلّ الأكثر إثارة للقلق هو أن كل ذلك يحدث بهدوء، دون ضجيج، كأننا ننزلق تدريجيًا إلى هاوية الاعتماد الكلّي عليه، ونحن نظن أننا ما زلنا نتحكم في استخدامنا له.

أنا شخصيًا لم أكن أعي خطورة هذا التعلّق في البداية. كنت أرى استخدام الهاتف أمرًا طبيعيًا، ومجرد جزء من روتيني اليومي. أن أفتح عيني على إشعارات فيسبوك وإنستغرام، وأن أتنقل بين المنشورات والمقاطع القصيرة، وأتوقف عند عدد الإعجابات والتعليقات، وأراقب كيف يتفاعل الناس مع ما أكتبه أو أشاركه.. كل ذلك بدا في البداية بسيطًا، بل ومسلّيًا.

لكن بمرور الوقت، شعرت أن شيئًا داخليًا يتغيّر. لم أعد أعيش اللحظة بكامل حضورها، بل صرت أُجهزها للنشر. أصبحت أتساءل: هل هذه اللحظة تستحق صورة؟ هل هذا المشهد يستحق مشاركة؟ هل هذه الفكرة ستلقى رواجًا؟ ومع كل هذا التساؤل، كان هناك شيء يتلاشى… شيء يشبه الصدق، التلقائية، وربما السلام النفسي.

بدأت أدرك أنني فقدت جزءًا من ذاتي. لم أعد أستمتع بلحظات الصمت، ولا بالجلوس مع نفسي. وكلما شعرت بالملل أو التوتر، كانت يدي تمتد للهاتف تلقائيًا، لا لأحلّ شيئًا، بل لأهرب.

لكنني حين نظرت حولي، أدركت أنني لست وحدي.

شاهدت صديقاتي يقضين أوقاتهن في متابعة مقاطع “الترند”، ساعات متواصلة تمر دون أن يشعرن بها، ثم يشتكين من ضيق الوقت!

رأيت شبابًا يعجزون عن إتمام حديث دون أن يتفقدوا إشعارًا، أو يسرحوا في عالم الألعاب الإلكترونية، يصرخون فرحًا بانتصار رقمي، فيما يختفي تدريجيًا إحساسهم الحقيقي بالإنجاز.

حتى الأطفال.. أولئك الذين اعتدنا أن نراهم يركضون ويلعبون، باتوا يجلسون ساعات أمام “اليوتيوب”، يستهلكون محتوى سطحيًا، لا يمنحهم مهارات، بل يسلبهم براءتهم وحيويتهم. أصبحت الذاكرة البصرية للطفل مشبعة بالشخصيات الخيالية والألوان الزاهية، لكنه لم يعد يعرف كيف يبني لعبة من مكعبات، أو كيف يصنع صداقات حقيقية.

كنت في جلسة مع أصدقائي مؤخرًا، وكلنا كنّا نُمسك بهواتفنا. لا أحد يتحدث، لا أحد ينظر في وجه الآخر. لحظة صمت خانقة شعرت فيها أننا أقرب إلى الغرباء، رغم قُربنا المكاني. كم من اللحظات الجميلة ضاعت لأننا كنّا منشغلين بتوثيقها بدل أن نعيشها؟ كم من الضحكات فُقدت لأننا كنا ننتظر تفاعلًا رقميًا بدلاً من تفاعل إنساني؟

وفي لحظة ما، شعرت باختناق داخلي. رغبة قوية في الانفصال، لا عن الحياة، بل عن هذا “الضجيج غير المرئي”. بدأت بمحاولة صغيرة: ساعة يوميًا دون اتصال. بدا الأمر صعبًا، بل شعرت في البداية وكأنني أواجه فراغًا هائلًا. لكن مع الوقت، بدأت ألاحظ الفرق.. عقلي استعاد هدوءه، قلبي عاد ليرى ويشعر.

صرت أقرأ بتركيز، أكتب، أخرج دون أن ألتقط الصور، أراقب الناس، وأشعر بالحياة من جديد. حتى تلك التفاصيل الصغيرة التي كدت أنساها – رائحة القهوة في الصباح، صوت العصافير، نسمات الهواء-أصبحت أكثر وضوحًا وأقرب إلى قلبي.

أدركت حينها أن المشكلة لم تكن في التكنولوجيا، بل في طريقة استخدامنا لها. في ضعفنا أمام الإغراء، في استعجالنا للحياة، وفي قلقنا الدائم من تفويت “شيء ما”، بينما الحياة الحقيقية تمر بجوارنا دون أن نراها..

ومن خلال هذه الرحلة، قرأت عن أشخاص آخرين خاضوا تجارب مشابهة حيث وجدوا السلام في البُعد عن الشاشات.

هؤلاء الأشخاص، وغيرهم كثير، لم يكونوا مختلفين عني أو عنك. لكن ما جعل فرقًا حقيقيًا هو أنهم امتلكوا الشجاعة ليبدأوا. وأنا مثلكم، لم أكن أعلم من أين أبدأ، لكني اكتشفت أن البداية لا تحتاج أكثر من نية صادقة وخطوة بسيطة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

احدث المواضيع : قلة من الباحثين يمتلكون القدرة على قراءة المجتمع   رحلة الموضة من «الشارلستون» إلى «الباجي والستريت ستايل»   مبادرة «مودة».. دورات تدريبية لتأهيل الشباب المقبلين على الزواج   كل الطرق لا تؤدي إلى روما.. “شبابيك” تكشف أحدث طرق الهجرة غير الشرعية   أنهار الدم.. أحمد مجدي يكشف الحقائق الغائبة عن جحيم الثأر   الدارك ويب.. خفايا القاع المظلم للشبكة العنكبوتية   حكايات الرحيل والعودة.. مشوار العمر بين بساطة القرية وضجيج الغربة